Friday, November 4, 2011

انا طبيب تكليف 25 سنة، واحد من اوائل الثانوية العامة، عشنا عمرنا مفخرة للبلد ورافعين رأسها، دائما نؤدي ما هو مطلوب منا، مواطنون صالحون... و بتفوق!

وقبل ان اسرد الكلمات اللتي اريد كتابتها اود ان اذكر السبب الذي دفعني لكتابتها، طبعا هي اسباب كثيرة لكن الكأس تفيض بآخر رشفة. كنت قد قصدت معهدا تعليميا تابعا لوزارة الصحة، المفترض ان موارده متاحة لجميع الاطباء، طالبا ان اعمل لديهم بدوام كامل وبدون راتب، بل وسأدفع لهم 500 مقابل تدريبي لديهم، رفضوا لأني طبيب تكليف! مع ان لدي أجازة بدون اجر ادفع ايضا لكي احصل عليها، السبب كان قرارا معلقا في غرفة سكرتارية عميد المعهد اصدره مساعد الوزير بمنع اطباء التكليف من العمل في المستشفيات والمعاهد التعليمية بغرض ان لا يتعدى زمائل الدفعة الواحدة بعضهم ويكون بينهم رئيس ومرؤوس، طبعا ذلك عذر اقبح من ذنب، فزمائل الدفعة الواحدة ان عاجلا او آجلا سيكون بينهم رئيس ومرؤوس، والأقدمية ليست المعيار الوحيد الذي يقيم على اساسه الطبيب، فالقاعدة المفترض انها الاعم والاهم هي ان لكل مجتهد نصيب، وكل ما استفاده السيد الفاضل مساعد الوزير هو ان ضيق الخناق اكثر واكثر على طبيب التكليف.

مبدئيا أحب ان أشرح لمن لا يعلم ما هو التكليف، هو عبارة عن إرغام الاطباء (تكليف) على العمل بمناطق نائية بعيدة عن العمران والحضارة الطبية والمدنية بسبب عجز الدولة عن سد هذه الثغرة، وانا كمصري على اتم الاستعداد لأداء واجبي الوطني حتى لو لم أحب، لكن في المقابل يجب ان نقدر جيدا الخسائر من وراء التكليف، التكليف هو سنتين من العمل الاداري البعيد كل البعد عن ممارسة حقيقية لمهنة الطب لطبيب على كتفيه احمال من العلم و الطب لن تثبت بعقله فعلا الا بالممارسة وهو ما لا يستطيع ادراكه كله في سنة الامتياز، والا ستدخل كل تلك المعارف طيات النسيان، مع العلم بان الطبيب في بعض الدول يعتبر منقطعا عن ممارسة المهنة بعد سنتين من عدم الممارسة، فما بالك بطبيب منقطع عن الطب الا 5% منه وهو تقريبا ما يمارس من طب في الوحدات الصحية، اي انه منقطع عن ممارسة 95% من المهنة، تخيل ان هذه سلمة مكسورة في طريق الطبيب يسقط بها عدة درجات للأسفل، وتخيل ايضا هذه السلمة المكسورة موجودة في طريق كل طبيب من اطباء وزارة الصحة لتستطيع تخيل كمية الخسائر التي تتحملها الرعاية الصحية في مصر من وراء التكليف.

لكن لا خلاف على ان الفائدة المتحققة اذا غلبت الضرر الواقع فعلينا التحمل، وكله من اجل مصر... لكن الوحدات الصحية اللتي تتحمل الجزء الاكبر من الرعاية الصحية الاولية بمصر هل تؤدي دورها؟؟؟؟!!

سنتكلم أولا عن جودة الخدمة في الوحدة الصحية، الوحدة الصحية مثلها مثل كل مؤسسات مصر إدارة مركزية، أي ان مدير الوحدة هو من بيده الحل والربط وكل صغيرة وكبيرة بالوحدة، وطبعا المؤسسات المركزية معتمدة بشكل رئيسي على مديرها ، نجاحه يعني نجاح المؤسسة وفشله يعني فشلها، العوامل الاخرى موجودة لكن تاثيرها ضعيف، لو نظرنا الى المؤهلات اللتي يتم على اساسها اختيار هذا الشخص المهم، ما هي؟ أي شخص بمؤهل طبيب بشري يمكن ان يشغل هذا المنصب، حتى لو كان منعدم الخبرة الطبية والحياتية والادارية، لدرجة ان معظم مديري الوحدات الصحية هم في السنة الاولى او الثانية من السلم الوظيفي، في نفس الوقت الذي يفوقهم كل من يترأسون عليهم خبرة في الشؤون الادارية ويستطيعون ان يسيروا مدير الوحدة كما يريدون او حتى ان يلبسوه تهمة ان شاؤوا.

أيضا مدير الوحدة مطلوب منه ان يراجع من 30 الى 50 كشفا شهريا يشمل عمل جميع موظفي الوحدة، بالإضافة الى ملئ متوسط 60 استمارة طب اسرة خاصة ببيانات المريض، والإشراف على حضور وانصراف وانضباط الموظفين، بالإضافة الى عمله كطبيب يداوي من 20 إلى 30 مريض يوميا ومراجعة وفيات ومواليد المنطقة اللتي تخدمها الوحدة الصحية والتحقق منها، هذا في خلال العمل الصباحي، ثم يستمر في التواجد في الوحدة خلال النوبتجية حتى الساعة العاشرة مساء بالتبادل مع زميله في الوحدة ( النوبتجية بدون مقابل مادي) في نفس الوقت الذي لا يتجاوز عمل باقي موظفي الوحدة نصف ما يعمله الطبيب وتصل في بعض الحالات الى موظفين بدون عمل مسند اليهم او عمل لا يتعدى ملء استمارتين اسبوعيا والمقابل ان مدير وأطباء الوحدة هومن أقل الرواتب في الوحدة.

وبالطبع وبهذه التكليفات لا بد أن يقصر الطبيب في أداء بعضها إن لم يكن معظمها، سواء بإغفاله عن المراجعة و الاكتفاء بالامضاء،أو حتى بتراكم و تسيب بعض الأعمال، وطبعا المدير المقصر عن أداء عمله بعذر أو بدون عذر هو عاجز عن محاسبة الآخرين عن أعمالهم مما يؤدي إلى تداعي الخدمة في كل أنشطة الوحدة.

أما عن نظام طب الأسرة الأسطوري "رائعة السيد الوزير السابق حاتم الجبلي" فللأسف هو خطة جيدة نفذت بشكل سيء للغاية اختزلت في النهاية الى العديد من الاستمارات والورقيات بعيدة تماما عن خدمة المريض والمجتمع.

المفترض أنه وضع ليكون العصب الرئيسي للرعاية الصحية الأولية، فهو توثيق لكل أفراد المجتمع الذي تخدمه المنشأة الصحية، يشمل توثيق الحالة الاجتماعية والصحية والأدوية الموصوفة وكل ما يشمل المريض صحيا بما فيها التطعيمات وتنظيم الاسرة . لن أتكلم هنا عن سلبيات النظام، فكل من يتعامل معه ليوم أو يومين باستطاعته ادراكها كلها، لكن هناك دائما قاعدة لدى أخصائيوا الجودة، النظام الذي أقلية منتسبيه متسيبة مشكلته في الأفراد، والعكس إذا كانت الأغلبية متسيبة تكون المشكلة في النظام، لذلك إذا كان نظام طب الأسرة قد تحول في معظم وحدات الجمهورية إلى ملفات وسجلات تملؤ ببيانات وهمية لمجرد ملئ الورقيات وتجنب العقوبة وغير مفعل بالمرة فالحل إذن ليس في زيادة مرور مشرفي الوزارة وتشديد العقوبات ولكن الحل في إعادة دراسة النظام ووضع حلول جديدة للتغلب على العقبات.

للأسف النظام ممتاز، لكن ما الفائدة منه وهو غير مفعل، المفترض في أي نظام جديد يفعل ان ينفذ فيه الأعمدة الأربعة الرئيسية للجودة: ( خطط... نفــذ... قيــم... حسن) أي توضع الخطة ثم تنفذ ويأتي بعد التنفيذ مرحلة التقييم، تقييم النظام والأفراد القائمين عليه، و كم من الأهداف المرجوة تم تحقيقه، ثم التحسين للعيوب ووضع خطط جديدة للتغلب على العقبات و هكذا .

لكن ما يتم هو وضع الخطة ثم تنفيذها و تقييم الأفراد لعقابهم في حالة عدم التنفيذ، من ذا الذي يجرؤ على تقييم الخطة والنظام، هما ببساطة بلا عيوب!

اذن نعود مرة أخرى ونقول أني مستعد لأداء واجبي الوطني تجاه بلدي، لكن إذا كان يحقق الفائدة المرجوة منه.

أذكر الناظر في مدرسة بلدتنا، كان شغله الشاغل أن يكون في كل فصل مدرس بغض النظر عن ماذا يعمل أو ما مادته، طالما الفصل فيه مدرس و كراسات الطلبة ممتلئة لا يهم ما يتعلمه او لا يتعلمه الطلبة.

نفس الدور تلعبه بنا وزارة الصحة، المهم ان يتواجد طبيب بالوحدة و أن يملأ الورقيات بغض النظر عن مستوى الخدمة أو قدرة الطبيب حديث التخرج الطبية و الإدارية، ببساطة ... وزارة الصحة تضييع أثمن سنين عمرنا هباء دون فائدة ملموسة من وراء ذلك.

أيضا الأساليب المستخدمة لحصار وتضيق الخناق على الطبيب وحشية وغير آدمية، فكل موظف حكومي في الدولة عقوباته لفت النظر والانذار والجزاء والخصم والانذار بالفصل و أخيرا الفصل، لكن الطبيب الوضع لديه يختلف، يشمله كل ما سبق لكن هم يعرفون نقطة ضعفه، يعرفون ان الطبيب يتنازل عن أي شيء إلا عن حرصه على العلم، لذلك تمنعه الوزارة عن تسجيل وامتحان الدراسات العليا إلا عن طريقهم، و تمنعه عن التدريب في الجامعات والمستشفيات التعليمية إلا عن طريقها، وتمنعه عن العمل في التخصص الذي يرغبه حتى يشاؤون، هم ببساطة يمنعون عنه العلم ويساومونه عليه، أي هم سبب الفجوة العلمية والمهارية الرهيبة بين أطباء مستشفيات الصحة واطباء مستشفيات الجامعة.

وذلك هو السبب الذي جعل الأطباء يتحملون ساعات العمل خارج الدوام بدون أجر، والعمل في العطل الرسمية بدون مقابل، والعمل في المناطق النائية بدون فرق إضافي يغطي حتى مصاريف التنقلات.

أخيرا أنا لست هنا لأشجب و أعترض لمجرد علو الصوت، ولست أرغب في إثارة بلبلة في وقت البلد في غنى عن أي من هذا، لكني ابن مصر ولا أريد إلا الاصلاح ما استطعت.

و هذه بعض اقتراحاتي المتواضعة لذلك:

  • · السماح لأطباء وزارة الصحة جميعا بما فيهم أطباء التكليف بتسجيل وامتحان الدراسات العليا والتدريب في الجامعات والمستشفيات التدريبية دون الحاجة لموافقة الوزارة ووفق ترتيبات واشتراطات الجامعات فقط، وتوفير أجازات ميسرة للتفرغ لهذه النشاطات وأي تضييق يجرى على ذلك يبرر ويحدد ليكون الأساس السماح ما لم يمنع لا المنع ما لم يسمح.
  • · وضع خطوط عريضة لخطة متكاملة لاستبدال أطباء التكليف المؤقتين بأطباء طب أسرة يستطيعون ان يكملوا في المكان نفسه مدة لا تقل عن 4 الى 5 سنوات حيث هو الأقدر والأكفأ على إدارة والعمل بهذه المنشئات الصحية، وتوفير ذلك عن طريق عوامل جذب واستقطاب وليس قهر واضطهاد، و تستكمل هذه الخطة بمعرفة الوزارة القادمة بعد تسليم السلطة، و يشكل من الآن لجنة لوضع اساسات وتطوير هذه الخطة تشمل هذه اللجنة نخبة من مديري الادارات الصحية و فريق من المختصين بالوزارة وأعضاء من نقابة الاطباء وما لا يقل عن نصف اللجنة يكون من أطباء التكيف ما بين شبابهم وشيوخهم، ويراعى في هذه الخطة ان يتم الاستبدال تماما في خلال فترة من 5 الى 10 سنوات، و يراعى أيضا أن خط الدفاع الأول ضد المرض وانعدام الثقافة الطبية (الرعاية الصحة الأولية) هو الأولى بالجزء الأكبر من الميزانية، ونجاحه يعني تخفيف العبء عن المستشفيات العامة والتعليمية والجامعية والمراكز المتخصصة للتفرغ للدور المنوط بها وبالتالي تسير المنظومة بأكلمها بسلاسة.
  • · إيقاف العمل بنظام ملفات طب الأسرة فورا حتى إعادة دراستها وتوفير آليات لإعادة تشغيلها بشكل سليم، واقترح أن يكون النظام البديل إليكترونيا و سيساعد في ذلك ان كل وحدة صحية بها جهاز كمبيوتر ومعظم أطباء التكليف حديثوا السن يمكن تدريبهم على نظام اليكتروني جديد بسهولة، و لك أن تتخيل قاعدة بيانات صحية على مستوى إقليمي أو قومي، قائمة على سبيل المثال على الرقم القومي للمريض وكلمة سر لدى المريض يبدأ بناؤها بالوحدات الصحية ويستطيع أي طبييب يعالج المريض أن يضيف فيها بيانات المريض فرضا برقم النقابة الخاص بالطبيب، ويتم ربطها بقواعد البيانات الموجودة حاليا مثل اللتي في بعض المستشفيات الجامعية، وبالامكان ربط الوحدة الصحية مباشرة بالانترنت ليكون التحديث فوريا أو من الممكن أن يكون التحديث عن طريق الإدارة الصحية مثلا بصورة أسبوعية، بدلا من أكوام ورق تعلوها التراب في كل وحدة صحية وإملأ استمارة ف3 ثم ف4ت ثم ف5ت ثم سجل كذا وسجل كذا وورقة العلاج...؟؟
  • · الإلغاء الفوري للنوبتجيات بالوحدات الصحية واللتي تفتقر لكل ما يلزم لعلاج الطواريء من خبرة ومعدات الا بعض الضمادات وعشرة أصناف علاج واللتي يمكن الحصول عليها من أقرب صيدلية، وخاصة أن المسافة بين معظم الوحدات الصحية والمستشفيات العامة لا تتعدى الربع ساعة، وتفعل النوبتجيات في المناطق النائية فقط وبمقابل مادي مناسب، أما أن يطلب التواجد في نوبتجيات خارج الدوام الرسمي بدون مقابل مادي تماما و بدون دور حقيقي يتم عمله "مرفـــــــــــــــــــــــــــــــــوض"
  • · تخفيف أعباء أطباء التكليف الإدارية، وتسليم الختم لموظف اداري يكون مسؤولا عنه ويصدق بالختم على توقيع الطبيب كما في أي مصلحة حكومية أخرى.
  • · تخفيف ساعات العمل لطبيب التكليف طالما من غير المتوفر زيادة الرواتب الآن ليكون العمل يوم بعد يوم أو ثلاثة أيام في الاسبوع وليس يوميا ، ووضع استثناءات للطبيب الذي يعمل في وحدة بمفرده، فليس منطقيا أن يقوم فرد بعمل فردين ويطالب بنفس العمل.

ويقابل اقتراحات الاصلاح تلك اقتراحات إضراب متواضعة أيضا، وهو إضراب مقنن متدرج للضغط على الوزارة للاستجابة لهذه المطالب إذا تبناها الاطباء:

  • · الإضراب عن العمل لمدة يوم واحد مع التواجد بالوحدة الصحية لكل طبيب يتبنى هذه المطالب وخطوات تنفيذها، يحدد تاريخ ذلك اليوم بالتفاق بين جموع الاطباء ونقاية الاطباء.
  • · إيقاف العمل بملفات طب الأسرة والنوبتجيات في الوحدات الصحية ومراكز طب الأسرة المعتمدة ومراكز رعاية الأمومة والطفولة خلال اسبوع من هذا التاريخ.
  • · إيقاف العمل في تنظيم الأسرة يعد مضي شهر.
  • · إيقاف تطعيمات الأطفال بعد مضي شهر
  • · إيقاف العمل بكل أنشطة الوحدة بعد شهر لمدة اسبوع والعودة للعمل اسبوع ثم التوقف اسبوعين والعودة لمدة أسبوع ثم الاضراب الكامل عن كل أنشطة الوحدة حتى اشعار اخر ويستثنى منه حالات الطواريء فقط

ملحوظة: الطبيب كاتب هذه الكلمات لا يقوم بالكشف على بنات صغيرة مريضة في عربات الميكروباص

أحمد ثروت

مدير وحدة صحية